كُتّاب الموقع
عودة الثورات الملوّنة

وليد شرارة

الخميس 15 آب 2019

تعليقاً على التطورات في هونغ كونغ، أعرب الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن «أمله في أن تُحلّ الأزمة سلمياً، وأن تُحلّ لصالح الحرية ولصالح الجميع بمن فيهم الصين». وقد صدرت تصريحات أخرى عن بريطانيا والاتحاد الأوروبي ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان تندّد بالعنف وتحضّ على التهدئة وضبط النفس. لم تنجح اللهجة «المحايدة والبنّاءة» لهذه المواقف في إقناع المسؤولين الصينيين ببراءة الأطراف الغربيين حيال ما يجري في هونغ كونغ. فالاجتماعات التي عقدتها رئيسة القسم السياسي في القنصلية الأميركية في المدينة، جولي إيدي، مع بعض قادة المجموعات المشاركة في الاحتجاجات، ومنهم حزب «ديموسيستو»، والاستقبالات الرسمية والحارّة التي حظي بها بعض آخر من قياداته من قِبَل مسؤولين أميركيين بارزين ونواب في الكونغرس، بحسب «ذي إيكونوميست»، اعتبرتها بكين «دليلاً على أن اليد السوداء لأميركا تقف خلف الأحداث لاستغلالها والضغط على الدولة الصينية التي تخوض حرباً تجارية مع الولايات المتحدة».

اتهامات شبيهة بها للولايات المتحدة وُجّهت من روسيا، التي شهدت شوارع عاصمتها موسكو تظاهرات احتجاجية بمناسبة انتخابات الدوما. الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، بعد إشارتها إلى تورّط أميركي في دعم التحركات المعارضة لحكومة بلادها، دعت هذه الحكومة وتلك الصينية إلى تبادل المعلومات حول التدخلات الأميركية في أوضاعهما الداخلية. وأضافت زخاروفا أن الاستخبارات الأميركية تستخدم التكنولوجيا لزعزعة استقرار البلدين. وكانت الخارجية الروسية قد استدعت رئيس القسم السياسي في السفارة الأميركية في موسكو، تيم ريتشاردسون، للاحتجاج على تشجيع الولايات المتحدة للمعارضة على تنظيم تظاهرة غير مرخصة في الـ3 من آب الحالي.


تأتي هذه الاتهامات الصينية والروسية للولايات المتحدة في سياق تصاعد التوتر بين الأطراف الثلاثة، نتيجة اعتماد الأخيرة استراتيجية «احتواء مزدوج» تجاه الدولتين، تُترجم بالسعي المستمر للمزيد من الانتشار العسكري الأميركي ومن نشر الصواريخ في جوارهما، وإعادة إطلاق سباق التسلح معهما. ولا شك في أن عودة واشنطن للجوء إلى «الثورات الملونة» للضغط على الخصوم، وهي أداة سبق أن استخدمتها في مطلع الألفية الثانية في صربيا وأوكرانيا وجورجيا، سترفع من منسوب التوتر بينها وبين القوتين الدوليتين، وتعزز الشراكة الاستراتيجية بين الأخيرتين، وتفاقم حدّة الاستقطاب على المستوى الدولي.

وصف حركة احتجاجية أو هبّة بالثورة الملونة لا يعني نفي طابعها الجماهيري. على العكس من ذلك، فإن سرّ النجاحات التي حقّقتها هذه الثورات، ولو بشكل مؤقت في العديد من الحالات، هو قدرة القوى التي قادتها على إقناع قطاعات اجتماعية واسعة نسبياً بأنها تتبنّى مطالبها وتطلعاتها العميقة، وبأن إسقاط النظام القائم، أو التمهيد للانفصال عنه، كما هو جارٍ في الصين، واستبدال نظام «ديمقراطي» به هو المدخل الصحيح لمعالجة جميع المشكلات والاختلالات الأخرى. صربيا وأوكرانيا وجورجيا، ومن الممكن أن نضيف لبنان عام 2005، شهدت جميعها احتجاجات شعبية حقيقية بمعزل عن النتائج التي انتهت إليها. هذا الوصف يرتبط واقعاً بالأجندة الفعلية للقوى التي تتزعّم هذه الاحتجاجات، وتَطابقها مع أجندات القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. هدفت الثورات الملونة في الدول الثلاث المذكورة في تلك الفترة إلى إنفاذ الأجندة الاستراتيجية للولايات المتحدة، التي ابتغت إخراج آخر موطئ قدم روسي من البلقان عبر إسقاط نظام سلوبودان ميلوزيفيتش في صربيا، وإيصال «الناتو» إلى حدود روسيا، واستكمال محاصرتها عبر إسقاط النظامين القريبين منها في أوكرانيا وجورجيا، وتمكين القوى المتحالفة مع الغرب من الحكم. وإذا نظرنا إلى طبيعة الأنظمة التي قامت بعد الثورات الملونة، وطبّقنا عليها المعايير نفسها التي اعتُمدت لإدانة تلك التي سبقتها، معايير حكم القانون والمؤسسات والديمقراطية ومحاربة الفساد، لوجدنا أنها نفسها تسمح أيضاً بإدانة النظم «الملوّنة» التي فسدت بسرعة استثنائية. يعني هذا الأمر أن القوى المهيمنة على هذا النمط من الاحتجاجات والانتفاضات تقوم بخداع كتل شعبية وازنة، واستغلال غضبها وشعورها بالغبن المشروع في الكثير من الحالات، لخدمة مصالحها المباشرة كنخب طامحة إلى الاستئثار بالسلطة والثروة، بالتحالف مع الأطراف الدوليين الذين تظنهم مرشحين للبقاء إلى الأبد في موقعهم المهيمن.


نموذج هونغ كونغ فريد من نوعه، لأننا أمام حراك يحظى بدعم قطاع معتبر من سكان المدينة والمنطقة الذين لا يريدون استعادة الصين لسيادتها الكاملة على جزء استُعمر من أرضها في القرن التاسع عشر خلال حرب الأفيون. غالبية المحللين والمعلقين الغربيين أو المتغرّبين يجهلون أو يتجاهلون عن عمد هذا المعطى التاريخي، عندما شنّت بريطانيا على الصين حرباً لإجبارها على شراء الأفيون واقتطعت هذا الميناء ومحيطه من أرضها. لم تفلح الصين في العقود الماضية في تحرير هذه الأرض المحتلة بالقوة، على الرغم من حقّها في ذلك من منظور القانون الدولي الذي يقدّسه الليبراليون تارة، ويتناسونه طوراً، عندما لا ينسجم مع مصالح الغرب. لكنها منذ عام 1997، بدأت عملية استعادة تدريجية للمنطقة، تتسارع عندما تتيح لها تحولات موازين القوى والظروف السياسية ذلك. من الطبيعي أن يعارض قسم من الـ7 ملايين شخص الذين يسكنون هونغ كونغ، والذين يتمتعون بامتيازات كبرى مقارنة بغالبية مواطنيهم، الوحدة مع مليار و400 مليون صيني. نحن أمام ثورة أغنياء لا يريدون تقاسم الثروة والامتيازات مع الأغلبية. إنها نزعة انعزالية عن الأغلبية الشعبية العريضة وصلت في بلدان أخرى إلى درجة تهديد وحدتها، كما كانت الحال مع الشمال الإيطالي و«رابطته» التي دعت إلى الانفصال عن الجنوب الفقير، أو كما نسمع في لبنان أحياناً من دعوات للفدرالية ظاهرها طائفي ومضمونها طبقي. هي أيضاً ما يفسر سياسات دول الخليج خلال العقود الأخيرة، حيث دمرت النظام الإقليمي العربي ممثلاً بالجامعة العربية واتفاقياتها، حتى لا تضطر إلى أن تعيد توزيع قسم بسيط من عوائد ثروتها على الدول العربية الأقل غنى.


أما الأجندة الاستراتيجية الراهنة التي تندرج ثورة الأغنياء في هونغ كونغ في سياقها، فهي الأجندة الأميركية لزعزعة استقرار الصين وإضعاف قدرتها على منافسة الولايات المتحدة في حقل التكنولوجيا. الحرب التجارية والضغوط والعقوبات الاقتصادية وسباق التسلح والانتشار العسكري ونشر الصواريخ في جوار الصين، جميعها أدوات لسياسة أميركية أولويتها الفعلية إنهاك الصين واستنزافها لمنعها من الحلول مكان الولايات المتحدة على مستوى الريادة التكنولوجية. هذه الريادة، كما هو معروف، هي أبرز مرتكزات الهيمنة الأميركية على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبعكس ما يزعمه ترامب، فإن ما يتمناه هو أن تستفحل الأزمة لتجبر الصين على اللجوء إلى القوة بشكل واسع، ما يبرّر بعدها فرض عقوبات أميركية وغربية عليها بحجة انتهاك حقوق الإنسان، مع ما يترتّب على هذه العقوبات من تبعات شديدة السلبية على الاقتصاد الصيني. رهان آخر يرتبط بهذه الأجندة الأميركية، وهو ذلك الذي يعوّل على إثارة الانقسامات داخل القيادة الصينية بين موافق على استخدام القوة ضد المحتجين ومعارض له. هذا ما كشفه أستاذ العلوم السياسية المعارض والمقيم في المنفى، يان جياكي، الذي يؤكد أن جناحاً في القيادة، ممثلاً برئيس الوزراء لي كيكيانغ، يعارض اللجوء إلى القوة، ويتمنى أن تفضي التطورات في هونغ كونغ إلى إضعاف شي جين بينغ، ما يساعد على إزاحته في المستقبل. المؤكد أن بقاء قادة من نمط الرئيسين الصيني والروسي في موقع القرار في قوتين دوليتين صاعدتين هو واقع لن تتقبّله الإمبراطورية الأميركية المتراجعة بسهولة، ولن تتوقّف عن المحاولة لإضعافهما وإزاحتهما إن تمكّنت من ذلك.




المصدر: الأخبار