إن الأوضاع في لبنان والمنطقة تدعو إلى القلق الشديد، والعالم كله على فوهة بركان. خصوصاً، بعد التجربة النووية في كوريا الشمالية، ولا أريد الدخول في أسباب ونتائج هذه الحالة، إنما ما أراه على الساحة اللبنانية من تشرذم وتفكك في المجتمع وبين الناس هو الأمر الخطير الذي يدعو إلى التأمل والتفكير فإلى أين نحن سائرون؟
الطوائف تتنازع، والطائفية كالوباء الأصفر تدخل إلى نسيج المجتمع، فتقتل حيويته وتمزق تكوينه الداخلي، وأصبح الانتماء إلى المرجعيات الدينية أمراً مألوفاً فتأمين مصالح الناس لم يعد يتم إلا من خلال المؤسسات الطائفية، الجامعات والمدارس، المصارف والمستشفيات، مؤسسات الدولة، القضاء والتعيينات الدبلوماسية وغيرها ...
لقد أصبحنا نتنفس طائفياً، ومنذ قيام هذا الكيان اللبناني بصيغته الحاضرة وإلى تسعين عام مضت يقوم الصراع بين مبدأ الدولة الطائفية والدولة العلمانية فإلى أين أوصلنا هذا الصراع وماذا حل بنا ؟
نحن في لبنان قطعان بشرية يقودنا الغباء والجهل إلى تحطيم وجودنا، إلى قتل نفوسنا، إلى تهجير شبابنا، هؤلاء الشباب الذين تخرجوا من الجامعات وكلّفوا أهلهم الغالي والنفيس،.. نصدّرهم إلى أسواق العالم، ويبقى عندنا الشيوخ والأطفال نعتني بهم، فالشيوخ إلى المدافن والأطفال إلى عناية المدارس والجامعات الطائفية، وما يؤمنه هؤلاء المنتشرون في العالم كله من أموال ونقود ننفقه على العناية بالأطفال والشيوخ، وأنها لعناية مكلفة جداً في بلد تغيب عنه الضمانات الاجتماعية والقوانين الإنسانية
إنه مشهد رهيب يختنق فيه هذا الكيان المعذب الذي يدور في حلقة مفرغة، فيصدّر ما ينتجه من شباب وقد أنفق عليه دم القلب، ويحتفظ بمن يجب أن يُعيلهم من شيوخ وأطفال وهم لا إنتاج لهم، فكيف الخروج من هذه الدائرة الجهنمية ومتعهدوها هم من أبناء هذا الوطن المعذب الذي لا يعني لهم سوى فندق وملهى ومصارف وشواطيء وثلوج ؟
وحدها علمنة الدولة هي الجواب الحقيقي على هذه الأحوال الخطيرة، وحده الزواج المدني يلغي الفوارق بين الطوائف والمذاهب ويؤمن وحدة المجتمع، ويجعل المساواة بين أبناء الوطن الواحد أمراً واقعاً.
إن العصبيات الطائفية والمذهبية تقتل وحدة الروح عند المواطنين، وتحولهم إلى دوائر مغلقة، تدور كل واحدة منها على نفسها، يخنقها التعصب، ويختصر طموحها في أن تصبح شرنقة مغلقة تموت فيها وتندثر.
هذه الحالة تقع ضحيتها النفوس المريضة فتتجه إلى خارج محيطها، وتستعين بمن يريدون القضاء عليها في عملية عزلها. ثم فصلها عن نموها الطبيعي، فتصبح عرضة كالفراشة للاحتراق. وهي تدور على نفسها حول الضوء الذي تتوهم أنه يُدلها على طريق الإنقاذ،.. فإذا به يقضي عليها في دوران يُحّولها إلى رماد .
ومنذ مطلع القرن الماضي ظهرت المدارس الفكرية الداعية إلى فصل الدين عن الدولة، وكان من روادها عظماء من بلادنا أمثال جبران خليل جبران، وأمين الريحاني، والدكتور خليل سعاده. ومن بعده ابنه انطون زعيم الحركة القومية الاجتماعية، المعلم بطرس البستاني، الدكتور شبلي الشميل، نجيب عازوري، جميل معلوف، عبد الرحمن الكواكبي، الدكتور خالد الخطيب، وغيرهم من الذين كتبوا وألّفوا حول هذا الموضوع، إلا أن المصالح الأجنبية،.. وصراع الدول المفترسة أوقعنا في حروب داخلية هدامة، فبعد الحرب الكبرى وموت أهلنا من الجوع، وتهديم قرانا، جاء صلح المنتصرين ليجعل من هذه المنطقة مراكز نفوذ موزعة حصصها عليهم، واعتمدوا جميعهم على التفرقة الطائفية والمذهبية، وما هذه الحروب الداخلية المتقطعة التي وقعت خلال مائة عام إلا تثبيتا لنظرية التفرقة الدينية والطائفية فكانت معارك الاستقلال صراعاً بريطانياً فرنسياً ومعارك 1958 تمهيداً لمعركة 1975 التي ظهرت فيها بشاعة الصراع الطائفي الهدام، الذي أنتج هذه الحروب الداخلية المستمرة والتي لم نزل نعاني من نتائجها إلى الآن.
كل هذا أعطى «إسرائيل» اليد الطولى في متابعة عملها الهدام في قلب مجتمعنا.
والآن، ما يمكن أن يُنقذنا من كل هذه الحروب والويلات والصراعات الداخلية هو علّمنة الدولة،.. في عملية فصل الدين عن الدولة، والبت النهائي في موضوع الزواج المدني .
وإذا كان المعنيون اليوم يتكلمون كثيراً عن بناء الدولة الحديثة وتطوير أنظمتنا ومؤسساتنا لتتمكن من مجاراة ما يحصل في العالم،.. فلا تستقيم هذه الأوضاع كلها طالما هي مبنية على الطائفية،.. وتوزيع الحصص بين الطوائف والمذاهب. فكل ما يبنى على الفساد فهو فاسد، ولبنان يستمر فقط إذا تحول إلى مجتمع مدني عصري يتساوى فيه المواطنون أمام حقوقهم وواجباتهم وإلا فلبنان إلى زوال
*نُشر في مجلة تحولات - العدد السادس عشر - تشرين الثاني 2006