العلمانية
الوسطية في الخطاب الأصولي.. خداع المصطلح والتباس المفهوم

همام طه

الإثنين 20 تشرين الثاني 2017

الوسطية كما يدّعيها الإسلاميون ويسوّقونها، ليست حالة تقييم سياسي وتموقع حزبي كما هو السائد بل تمثّل لاعتدال وهمي وسط عقيدة مبنية أصلا على العنف، وينطلق من فكرة أنهم الطرف الأكثر لينا في مشروع أيديولوجي يفترض على جمهور الناس أن يخضع إليه عنوة وينخرط فيه كواقع لا مفرّ منه، مما يضمر نزعة إقصائية وحالة عدم اعتراف بالتنوّع والاختلاف والحريات الفردية.

من مغالطات الخطاب الأصولي التي يعتمدها في تسويغ أفكاره مغالطة “الوسطية”؛ والتي تقول إن الصواب والمثالية يكمنان في اختيار الحل الوسط بين الإفراط والتفريط وبين التشدّد والتمييع، لكن نتيجة اعتماد هذه المغالطة في تسويق المعتقدات الأصولية كانت إضفاء الشرعية على أفكار وأعمال ليست أخلاقية أو قانونية، فالخطاب “الوسطي” يرى أن “الجهاد المشروع” والمقيّد بالشروط الفقهية هو الحل الوسط بين نقيضين هما “الجهاد الداعشي” و”القعود عن الجهاد”؛ ولكننا لا نعلم مَن الذي يمتلك سلطة تحديد مفهوم المشروعية إذ يمكن لأي جماعة متطرّفة ادّعاء أن العنف الذي تمارسه هو الجهاد الصحيح وأنه “وسطي” وأكثر اعتدالا من “جهاد داعش”.

ويلاحظ أن مغالطة “الوسطية” تقوم أساساً على مقدمة غير موضوعية ومنحازة؛ وهي القول بصلاحية المفاهيم الدينية التاريخية لهذا العصر، وأن المشكلة في التطبيق فقط، وكأننا إزاء قضية كميّة وإجرائية محصورة في جدلية الاعتدال والتطرف وليست أزمة فكرية عميقة ومركبة يجسّدها الإصرار على إقحام التراث على الواقع الراهن ومعالجة مشكلاته بمنطق ديني خارج الأطر العقلاني.

تأسيس على فرضيات مغلوطة

مَن قال إن “الجهاد” مطلوب أصلا في التعاطي مع الصراعات المحلية والدولية؟ ومَن أباح للمؤسسات الأصولية الفقهية والحزبية أسلمة النزاعات واستحضار مفهوم “الجهاد” في مقاربتها؟ لا يمكن القبول بالعنف المقنن فقهياً كـ”حلٍّ وسط” بين الدعوة إلى العنف الجهادي وبين رفضه، لأن فكرة العنف الديني يجب أن تكون مرفوضة من الأساس، فكل عنف لا تحتكره أجهزة الدولة الرسمية في إطار القانون لا يمكن اعتباره مشروعاً، سواء كان دينياً أم علمانياً، متطرفاً أم “وسطياً”.

ومن الأمثلة على مغالطة الوسطية زعمُ الخطاب الإسلامي “المعتدل” أن الحجاب يمثل الحالة الدينية الوسطية بين الإفراط (النقاب) والتفريط (عدم لبس الحجاب)؛ لكن هذا الطرح متحيّز وغير موضوعي وتمييزي لأنه افترض سلفاً أن عدم ارتداء الحجاب يعكس التفريط في الالتزام الديني وأن النقاب يعبّر عن التطرف الديني. تفتح هذه المغالطة باب التمييز العنصري والتنميط الثقافي، إذ تكرّس صورة نمطية عن السفور والنقاب تربط الأول بالانحلال والثاني بالتطرّف

وتمنح الحجاب الإخواني الذي يكشف الوجه والكفّين فقط امتيازا حصريا بتمثيل الاعتدال الديني.

لا يحق لذلك الخطاب الإسلامي الذي يوصف بأنه “معتدل” أو “تنويري” أن يَقصر الوسطية الدينية على زي معين لأنه بذلك يصِمُ الأزياء الأخرى بالخروج على التدين المعتدل ويُقصيها دينياً واجتماعياً، في حين أن الملابس والهيئات خيارات ثقافية تعكس التقاليد والتفضيلات الشخصية ويُفترض أنها مستقلة عن التصنيفات الدينية، وهي في كل الأحوال مسائل مظهرية وشكلية لا يمكن استخدامها في الحكم على جوهر الإنسان وأفكاره وسلوكه كما يفعل الأصوليون.

مفاهيم ملفقة

كما يلاحظ في هذا المثال أن الوسطية الإسلامية مفهوم شكلي وسطحي وليس جوهرياً، بمعنى أنه ذو طبيعة سياسية وليست قيمية، فالاعتقاد أن الحجاب يجسّد الوسطية قد يبدو خياراً معتدلاً في الظاهر؛ لكنه يؤشر على تعصّب ديني كامن وانحياز ثقافي وفئوي ولا يعكس اعتدالاً حقيقياً لأنه يتضمّن إقصاء ضمنياً للنساء اللواتي اخترن لأنفسهم شكلاً آخر في الملبس غير الحجاب، أي أن الوسطية مفهوم تلفيقي يحاول الجمع بين المتناقضات لافتعال شرعية دينية مزيفة للإسلام السياسي.

الوسطية بالمفهوم الأصولي تكتيك لتسويق التطرّف وحمايته وليست بديلاً عنه أو نقيضاً له، أي أنها التعصب بعينه، فمن صريح التعصّب أن تعتقد بأن أفكارك وسياساتك تعبّر عن المثالية والحل الوسط بين الخيارات والتيارات الأخرى التي تعتبرها مجانِبة للصواب الديني. كما أن الوسطية موقف أيديولوجي يستند إلى الاعتقاد بأن المسلم يجب أن ينطلق في سلوكياته الحياتية من أرضية الهوية الدينية، وهذا في حد ذاته موقف متطرّف لأنه يدفعك للانطواء في أطراف الفضاء العام متخندقاً في حصنك الديني الذي شيّدته لنفسك، وهو ما يبعدك عن “الوسط” الذي ادعيت ملكيتك له، ويجعلك تعيش في حالة إقصاء متبادل مع المحيط.

وتدور الوسطية، في الوعي الأصولي، حول الاعتدال في الأدوات والوسائل لا في المنطلقات والأهداف، فهي تنطلق من الاستعلاء الديني وتستهدف أسلمة المجتمع بمعنى أنها تشارك تنظيم داعش منطلقاته وغاياته. وهي في الوقت نفسه محاولة للمزايدة بين التيارات الأصولية في سياق التنافس على احتكار تمثيل “الحقيقة المطلقة”؛ فالإخوان يعتبرون أنفسهم إسلاميين وسطيين مقارنة بالسلفيين والصوفيين، والسلفيون التقليديون يقدمون أنفسهم كوسطيين مقارنة بالقاعدة والسلفية الجهادية. والقاعدة ترى نفسها وسطية مقارنة بداعش وجبهة النصرة.

إن الوسطية في الإسلام السياسي هي اعتدال مصطنع يخاطب نفسه، ويقارن ذاته بذاته، فهي مثل الديمقراطية الإيرانية؛ بمعنى أنها وسطية أيديولوجية في إطار الهيمنة الأصولية وتحت مظلتها، وتفتقر لأول شروط الاعتدال وهو الانفتاح على الآخر، وبالتالي، لا تمنح هذه الوسطية التيار الإسلامي أيّ سمة اعتدال أو انفتاح فعلية على صعيد الصراع مع القوى العلمانية والليبرالية؛ لأنها ليست وسطية حقيقية بل مجرد إعادة هيكلة وإنتاج للمفاهيم اليمينية المتطرفة في صيغ “تسويقية” برّاقة، حيث تستخدم الدعاية الأصولية هنا نظرية “التكييف الشَرْطي” فتحتال على الرفض الاجتماعي الطبيعي للتشدّد بتوظيف شعار “الوسطية” لتحفيز استجابة مجتمعية مصنّعة لخطابات الاستلاب الأيديولوجي وتزييف الوعي، وقد تجلّت هذه الاستجابة في مقبولية نخبوية وشعبية للأحزاب الإسلامية منحتها فرص الحضور السياسي والصعود الانتخابي في عدة بلدان عربية قبل أن ينهار المعبد وتفشل التجربة وتنكشف هشاشة المحتوى الصحوي الإخواني وتهافته.

وبعيدا عن الأدلجة الأصولية، تستخدم الأدبيات الأكاديمية مصطلح “الوسطية”، وفق تصنيف علمي يستند إلى معايير سياسية وأيديولوجية، لتحديد موقع حزب ما ضمن الخارطة السياسية، أما الوسطية التي يدعيها الإسلام السياسي فتوصيفها الدقيق هو “اليمين الإسلامي المتطرف”؛ أي التيار السياسي الذي يدعو إلى فرض هوية دينية أحادية على المجتمع عبر التدخل القسري والإكراه واستخدام العنف.

وتشترك قوى الإسلام السياسي مع قوى اليمين المتطرف حول العالم في خاصية أنها ترفض نعتها بالتطرف وتزعم أنها تمثل الاتجاه العام في المجتمع وتنقل صوت الأغلبية، ولتمرير هذا الزعم كان الإخوان في مصر مثلا يستخدمون شعار “الشعب المصري متدين بطبعه” لفرض هيمنتهم الأيديولوجية على المجتمع. وفي العراق يستعمل الإسلاميون مغالطات مماثلة لتمرير مشاريع القوانين المعادية لحقوق الإنسان عبر العزف على وتر شعارات “الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي” و”احترام الخصوصيات المذهبية” بمعنى أنّ العبارات الدستورية والمفاهيم الديمقراطية يتم استخدامها لفرض إرادة اليمين الشعبوي المتطرّف وإخضاع التيارات الأخرى، أي جعل الديمقراطية تعمل ضد نفسها.

ومن علامات اليمينية المتطرّفة التي يعتنقها التيار الأصولي، وتنسف كل مزاعم الوسطية التي يسوّقها، أنه لا يؤمن بالمساواة بين البشر، ويعتقد أن للمسلم أفضلية على غيره، ويؤمن بالطبقية الدينية؛ أي أن يكون المسلمون في المرتبة الأولى يليهم المسيحيون والأديان السماوية الأخرى، أما اللادينيون أو أتباع الأديان غير السماوية فيرى وجوب عدم الاعتراف بحقهم في الاعتقاد، و”عدم الاعتراف” هنا لا نستطيع اعتباره مجرد “رأي ديني” متشدد بل هو موقف قمعي، إذ تترتب عليه ممارسات ميدانية فاشية تشمل السعي إلى إنهاء التنوّع الديني في المجتمع عبر السياسات الدعوية والضغط الاجتماعي على الأفراد والأقليات، أو من خلال تشجيع السلطات على التدخل لإدماج المختلفين قسرياً وتذويبهم في الهوية السائدة.

وتعكس الوسطية الإسلامية اعتقادا نرجسيا لدى التيار الأصولي والصحوي بأنهم مركز الكون، وتعبّر عن حالة من “التمركز الثقافي”؛ أي إصدار الأحكام على الآخرين وفق معايير مستمدة من الهوية الثقافية الذاتية مع إضمار الكراهية نحو الهويات التي تختلف عنها، و”التمركز حول الذات”؛ أي أن تعتبر الجماعة نفسها وآراءها الأكثر أهمية وإقناعاً، إذ يقول الخبراء النفسيون إن الأفراد المتمركزين حول ذواتهم عاجزون عن إدراك أفكار الآخرين أو التعايش معها، إضافة إلى عدم قدرتهم على التأقلم مع الواقع الذي تشير أحداثه إلى أن الحقائق قد تكون مختلفة عن التصورات التي لديهم استعداد لتقبّلها.

تطرف صريح ولا وسطية مزعومة

يبدو التطرف الصريح برغم شراسته وعدوانيته أكثر مصداقية من الوسطية المزعومة، فالأصولي المتعصب أكثر “مبدئية” من نظيره “المعتدل” البراغماتي، وأقوى ولاء للمفاهيم الأصولية، وهو أكثر انسجاما مع نفسه واتساقا مع ما يؤمن به، لذلك يبدو فرض داعش للنقاب الكامل في المناطق التي سيطرت عليها أكثر منطقية من دعوة الإسلاميين “المعتدلين” للحجاب بشكله “العصري” الأقل تشدداً من النقاب، لأن الفريقين ينطلقان من فكرة أن المرأة “عورة” تثير الغرائز والشهوات ويجب تغطيتها، لكن الدواعش أكثر صراحة في تطبيق ما يؤمنون به دون التفاف والتواء و”عصرنة” كما يفعل “الوسطيون”، فالدواعش يغلفون المرأة حرفياً بـ”اللباس الشرعي” تطبيقاً للمبادئ الأصولية التي ينطلقون منها بعكس “الوسطيين” الذين لا يهدفون لتطبيق المبادئ بقدر ما يسعون إلى توظيف الحجاب كشعار سياسي وهوية فئوية تخدم أجندتهم الحزبية.

ما يسمى بـ”الاعتدال” و”الوسطية” هو في الحقيقة خداع ومخاتلة، فلا فرق حقيقيا بين مَن يربط الأخلاق بالحجاب ومَن يربط العفة بالنقاب؛ ذلك أن مجرد الربط بين الالتزام الديني أو الأخلاقي ومظهر الإنسان، أي القول بأن الالتزام يجب أن يتجسّد في هيئة محددة للفرد يتم على أساسها تصنيفه أخلاقياً واجتماعياً إلى فاضل ومفضول عليه أو ملتزم ومتهتك، فهذا تفكير يميني، أما تحويل هذه الأفكار إلى برنامج سياسي لحزب يسعى إلى الوصول إلى السلطة وفرض آرائه على المجتمع فهذا سلوك يميني متطرّف وفاشية سياسية.

ولا يمكن اختزال الوسطية برفض العنف الجهادي فقط، والزعم أن حمل السلاح من عدمه هو المعيار الوحيد للتفريق بين الوسطي والمتطرف، فمن الناحية الفكرية والعقائدية، لا فرق بين المنابع الأيديولوجية للفصائل والميليشيات الدينية القتالية وبين تلك التي تنهل منها الجماعات الدينية “السلمية” و”المعتدلة” التي تشارك في العمل السياسي والتنافس على السلطة، ذلك أن التطرّف لا يعني العنف المادي فقط بل يشمل تسييس الهوية الدينية وتديين الأحزاب والتنظير للطائفية والتبشير بها وتطبيقها سياسيا وحزبيا.

ومن الخصائص الأيديولوجية للتيار الأصولي، رفضُه الإقرار بحرية الاعتقاد والتدين لكل البشر، واعتبار التنوع واقعاً مشوّها وفوضويا ينبغي تغييره باتجاه الأحادية وخلق حالة من التجانس الديني والنقاء العقائدي. والإيمان أيضاً بأن العقيدة الدينية يمكن أو يجب أن تكون وسيلة للوصول إلى السلطة أو للبقاء فيها، أو غاية من وراء السعي إليها، أو أيديولوجيا للسياسة والحكم، أو دينا رسميا للدولة، وكذلك الاعتقاد بأن العنف أداة فعّالة وأخلاقية لنشر وحماية العقيدة.

الاستعلاء الديني

تتجلى أزمة الخطاب الأصولي عند تبشيره بالوسطية في كونه يعتبرها صفة جوهرية في الإسلام، وأنه، بخلاف سواه من الأديان، معتدل بذاته لأنه يعبّر عن “أكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب” كما جاء في مدوّنات التراث؛ أي أن الوسطية التي يُفترض أنها تعني الاعتدال صارت تُستخدم للتعبير عن مواقف متعصبة ومنحازة وغير معتدلة مثل هذا الموقف الذي يجعل جميع الأديان في مرتبة أدنى من الإسلام.

الوسطية الحقيقية في الفكر والسياسة والسلوك هي عملية مواءمة عقلانية وثقافية تقوم على التأمل والتأويل والتعلّم والتفاعل وتراكم المعرفة والخبرات والتجارب، ولذلك لا نستطيع أن نحتكرها لصالح دين أو هوية، فهي ممارسة فلسفية واجتماعية مستمرة وليست معطى دينيا، بمعنى أن بإمكاننا الاستدلال على مفهوم الوسطية بنصوص وروايات دينية وتراثية تدعو إليها من مختلف الثقافات والحضارات لكننا لا نستطيع أن ننسبها إلى دين دون غيره؛ لأننا بذلك نناقض أنفسنا فليس من الوسطية أن تحتكرها لنفسك، وإنما الوسطية أن تنفتح على الآخرين، وأن تتقبّل برحابة عقل وسماحة روح تفوّقهم عليك في البعض من مجالات الحضارة والحياة، وتؤمن بأن الوسطية مفهوم إنساني ومساحة تَشارُك وفضاءُ التقاء يضمّ الجميع وليست عنواناً تستأثر به جماعة دينية دون سواها.



المصدر: العرب اللندنية