أحداث ثقافية أخرى
الشعر الأموي غيّر الشعرية العربية من جذورها
الكاتب الثالث
الخميس 9 آذار 2017

عواد علي


شهدت الشعرية العربية، أقدم وأبرز شعريات العالم، تحولات مفصلية لعل أهمها الانتقال من العصر الجاهلي والقبلي إلى عصر صدر الإسلام الحضري، وهذا ما خلق تغيرات جذرية مازال تأثيرها كامنا إلى اليوم في النفوس والأشعار.

يرى الناقد الفلسطيني الراحل يوسف سامي اليوسف في كتابه "الغزل في الشعر الأموي"، الذي صدرت طبعته الأولى عن دار أزمنة حديثا، بعد وفاته بثلاث سنوات أن الشعر الأموي يكمل ما كان ناقصا في الشعر الجاهلي، مبينا أنّ العصر الأموي هو عصر الانفعالات الإنسانية الأعمق وأرقى المراحل في تاريخ الشعر العربي، أي أنها مرحلة الذروة في نموه وتحوله، وبانتهائها بدأ الانحدار يتدرّج نحو حضيضه.

سمات الشعر الأموي

السمة الأولى الأساسية التي يجدها اليوسف للشعر الأموي هي حضور ودفق السيولة العاطفية، التي كانت تنقص الكثير من الشعر الجاهلي، بما في ذلك معظم المعلقات. ففي حين كانت القصيدة الجاهلية توظف الطاقة الدلالية للفظة واللغة، فإن القصيدة الأموية تعمد إلى التعامل مع اللغة كمجموعة من الخزانات الشعورية.

أما السمة الثانية فهي التمركز حول الحالة. ففي حين كانت القصيدة الجاهلية تتمحور حول الفعل، الحدث أو الواقعة والخبر، فقد أخذت القصيدة الأموية تتمركز حول الحالة الداخلية للشاعر دون أن تطرد الواقعة من مجمل العصر. فبينما كنا نتعاطف مع الوجود الذي يصوره الشاعر الجاهلي ويتفاعل معه، أصبحنا لدى قراءة القصيدة الأموية نقاسم الشاعر وجدانه. وهذه المقاسمة هي علامة الكلية التي تتصف بها عاطفة الأموي.

وفي حين كان التحقق من مشروع وقائعي هو غاية الجاهلي وكليته، فإن الإشعاع الوجداني أصبح غاية الشاعر الأموي ونهجه نحو الكلية. فالعصر الأموي هو عصر الانفعالات الأعمق، إذ ليس صدفة أن ينتج ذلك العصر كلا من قيس بن ذريح وقيس بن الملوح وجميل بثينة وعمر بن أبي ربيعة.

يرى اليوسف أن الواقع في القصيدة الجاهلية كان يتمسرح، أما في القصيدة الأموية فقد أخذ الواقع يرعش. ففي حين كان الجاهلي يجد نفسه في فعله، على الرغم من أنه كان يطرح هذا الفعل كممارسة للنقض، وعلى الرغم من وعيه بجملة ضياعاته (ولا سيما الضياعات الجنسية عند شعراء القبائل والطبقية عند الشعراء الصعاليك)، فإن الشاعر الأموي يعي بؤسه على شكل طباق يقوم بين المُعاش والمثال.

فامرؤ القيس، مثلا، كان يعاني من نقص في ارتوائه العشقي ولم يكن يشعر بأي مفارقة تفصل بين مثله الأعلى (التحرر من الحظر) وبين ممارساته الفعلية (التحقق في الواقعة)، أما بالنسبة إلى الشاعر الأموي الملتزم بمثل أعلى (العذرية) يمنعه من مجابهة الحظر، فإن القطيعة القائمة بين مثاله وبين مطالبه الروحية قد شكّلت ينبوع سيولته العاطفية.

وكلما كانت السنون تبتعد عن عصر التفجّر الإسلامي، فإن تيار العواطف الأعمق الذي كان يتيح للوجدان أن ينحل في كليات جمالية يخلي ساحة القصيدة أمام كل تهتكات العصر العباسي.

إن الشعر الأموي، في رأي اليوسف، يقدّم دليلا فصيحا على تقدّم الكبت في التاريخ، ذلك الكبت الذي يتذوّب في الشعر الجاهلي، بل وفي الشعر العربي منذ امرؤ القيس حتى اليوم، لكن حس القهر جد معمّق في الشعر الأموي، وهذا هو سر عظمته. بيد أن تقدم القهر أو الكبت ليس العامل الوحيد في روعة الشعر الأموي وليس المسؤول الأول والأخير عن الدفق العاطفي في هذا الشعر.

إنّ الفرق الأول بين الشعر الجاهلي والأموي يكمن في أنّ القرآن الكريم يفصل بين المرحلتين، فلا بد أن يكون للتصوير الفني السامي الذي يتمتع به الكتاب المقدس أثره على الشعر الأموي. وفضلا عن ذلك فإن الحياة الاجتماعية التي أفرزت أدب تلك المرحلة هي حياة حضرية أعطت لغة رقيقة مختلفة عن اللغة الجاهلية الصحراوية. واللغة بالبداهة نسيج الشعر ومادة إنشائه.

الكبت في التاريخ

يستنتج اليوسف أن ثمة ثلاثة عوامل مسؤولة عن النمو الشعري وعن الفرق بين العصرين الأدبيين، الجاهلي والأموي هي: القرآن والتحضر وتقدم الكبت، مؤكدا أن الكبت ينبغي أن يُفهم هنا فهما تاريخيا، أي أن يؤخذ بمعنى القهر والقسر.

فالعصر الأموي هو مرحلة الحروب الأهلية الأشد حدة من أي حروب انقسامية أخرى عرفها المجتمع العربي في تاريخه الطويل. والعصر الأموي هو مرحلة الطغيان السياسي البالغ ذروته. فثمة هوة سحيقة تفصل المواطن عن الدولة. والطبقة المتربعة على سدة السلطة، وهي طبقة السراة العسكريين المستفيدين من الفتوحات، بعيدة كل البعد عن قاع الشعب. وقد استوفدت مثل هذه المتغيرات التاريخية إلى قطاع الشعر موضوعات جديدة كانت غائبة تماما عن ساحة الشعر الجاهلي، تماما مثلما ألغت موضوعات بدوية كانت تهيمن على القصيدة الجاهلية وتعد من أهم تقاليدها الراسخة.

وعلى المستوى الفني العام، أخذ وهج الصراع وفاعليته والزخم المسرحي أو الحَدَثي (أي المنحى الدرامي) يتراجعان عن الهيمنة التي كانت لهما أيام العصر الجاهلي. فإذا كان الشعر الجاهلي هو ملحمة التحقق، فإن الشعر الأموي هو أغنية الكف عن التحقق. وإذا كان العصر الأول ملحمي الطابع، فإن شعر العصر الثاني هو من صنف غنائي رقيق. وإن لهذا التحوّل أثرا فنيا كبيرا. ففي حين كانت القصيدة الجاهلية تتجه نحو الخارج فإن القصيدة الأموية قد أخذت تتجه نحو الداخل، ومن هنا راح وجدان الشاعر يعمّق تلوينه لعناصر الوجود.

وفي مقارنته بين الشعر الأموي والشعر العباسي، يذهب اليوسف إلى أن الشاعر الأموي بينما كان يصدر عن السليقة والألمعية والحصافة، فإنّ الشاعر العباسي أخذ يصدر عن الاصطناع والتكلّف، ومن هنا كان الغزل العباسي يفتقر إلى الأصالة ورعشة الانفعال، الذي كان يتميّز به الغزل الأموي.

وبإيجاز، يرى اليوسف أنّ الفرق بين غزل العصرين الجاهلي والأموي هو الفرق بين الروح في العصرين: الروح في توثبه وتفجّره، والروح في جنوحه نحو السبات والهمود. ومن مؤشرات ذلك أن ولدت أول مرة في تاريخ اللغة العربية، القصيدة الغزلية المكتملة الخصائص والمكرّسة لموضوع المرأة تكريسا كليا. فالعصر الجاهلي لم يهب الموضوع الغزلي إلا بضعة أبيات من القصيدة، وقلما تتوافر لهذه الأبيات طبيعة الغزل الصرفة، أما في العصر الأموي العصر الذهبي للغزل فإن موضوع القصيدة الغزلية قد غدا الحب في ذاته ولأجل ذاته، لا التعويض عن نقص الشخصية بالحب.


المصدر: العرب اللندنية