أحداث ثقافية أخرى
معرض فرنسي طريف يتناول حضور الحرب في أعمال بيكاسو
أبو بكر العيادي
الثلاثاء 21 أيار 2019

بيكاسو حافظ على استقلاليته الفكرية، وظل فنان التحوّلات الذي يرفض أن يعطي صورة نهائية ثابتة للعدو، ما يؤكد أنه كان فنانا كبيرا ومناضلا لم يلتزم بشروط الأيديولوجيا.



حتى نهاية يوليو المقبل، ينظم متحف الجيش الفرنسي بالتعاون مع متحف بيكاسو بباريس معرضا فنيا طريفا يتناول حضور الحرب في أعمال بيكاسو، سواء من خلال لوحاته المعروفة، أو أرشيفه الخاص، أو وثائق لها علاقة وطيدة بالمراحل التي مر بها الفنان الإسباني الشهير.

لا يزال بيكاسو منذ رحيله في مطلع السبعينات حاضرا في الذاكرة الفنية، وما انفك الساهرون على تنظيم المعارض يولونه الأهمية التي يستحق، ليس في شكل معارض استعادية فحسب، بل في صيغة معارض ثيمية تتناول تجربته الثرية من زاوية مخصوصة، فبعد المعارض التي ركزت على دوره في ظهور الحركة التكعيبية صحبة رفيقه جورج براك، أو سلطت الضوء على مرحلته الأفريقية التي استلهم فيها فنون القارة السمراء، أو توقفت عند تجربته في إعادة إنتاج لوحات سابقيه بأسلوب مغاير، يخصص متحف الجيش بباريس هذه المرة معرضا عن علاقة بيكاسو بالحرب.

عاصر بيكاسو (1881-1973) نزاعات كثيرة من الحرب الإسبانية إلى حرب فيتنام مرورا بحرب البلقان والحرب العالمية الثانية وحرب التحرير الكوبية، ولكنه لم يسهم في أي منها، بل لم يجنَّد في حياته قَطّ. ورغم ذلك، كان اهتمامه بالحرب وآثارها مبكرا، فقد بدأ منذ عام 1912 بإقحام قصاصات جرائد عن حرب البلقان في أعمال كولاج، ثم برسم لوحة “أحلام فرانكو وكذبه” عند اندلاع الحرب في إسبانيا بين الجمهوريين والقوميين، قبل أن يبدع لوحته الشهيرة غيرنيكا عقب المجزرة التي ارتكبتها القوات الفاشية والنازية الموالية لفرانكو ضد تلك البلدة البسكية يوم الاثنين 26 أبريل 1937، تلك اللوحة التي تصدرت الجناح الجمهوري الإسباني في المعرض العالمي للفنون والتقنيات الذي أقيم في ذلك العام بباريس، وأعلنت عن بداية أسطورة بيكاسو الفنان الملتزم.

ولئن أمِن بيكاسو الحربَ ولم يعش احتدامها على جبهات القتال، فقد عاش جرائرها عن قرب، في باريس زمن الاحتلال النازي وحكومة فيشي، وهو الإسباني المساند علنا للجمهوريين، إذ كان غالبا ما يختار العزلة في مرسمه تجنبا للملاحقة، ولاسيما بعد أن تنادت أصوات تدعو إلى طرده عقابا له عن بعض تصريحاته، على غرار جان كوسّو الذي عُزل من منصبه في متحف الفن الحديث بسبب مواقفه المعادية لفرانكو.

ولم ينخرط بيكاسو في المقاومة ضد قوات الاحتلال النازي، بل كان يمثل روح التمرد على الغاصب، والغازي، والقامع عن طريق الفن، ولم يمنع ذلك من حدوث بعض الزيارات المريبة، سواء من أعضاء حكومة فيشي، أو من النازيين أنفسهم.

وكان من نتيجة ذلك أن اختار بيكاسو الانزواء داخل المرسم وإقباله على الإنتاج بغزارة، وكأنه كان يقاوم بفنه السلطات الألمانية التي قامت بإزالة تماثيل العاصمة الفرنسية، وإن كانت أعماله في تلك الفترة متنوعة، من بورتريهات وطبيعة ميتة إلى حمائم السلام، إلّا أنها تميزت بلوحة “الأصبوحة” التي صوّر فيها الشعور بالقلق العام الذي اجتاح المدينة كلها في ربيع 1942، بعد تزايد عمليات الانتقام، وتطهير الساحة الفنية، ورواج أخبار عن نجاح الهجوم النازي على روسيا. ورغم تواتر عمليات التمرد لم يواكب بيكاسو الأحداث، وفضل رسم بوتريهات لبعض من يعرف كخليلته ماري تيريز.


وفي عام 1944، أي قبيل تحرر فرنسا من الاحتلال النازي، انخرط بيكاسو في الحزب الشيوعي. وقد فسر انخراطه المتأخر ذاك بكونه نتيجة طبيعية لحياته وآثاره، وأضاف في حديث للمجلة الأميركية “نيو ماسز”، “لديّ إحساس بأني ناضلت دائما بفني كثائر حقيقي.. لقد كشفت لي سنوات الاضطهاد الرهيب أنه ينبغي أن أناضل ليس بفني وحده، وإنما أيضا بذاتي. أنا في شوق كبير إلى بلدي، فقد كنت منفيا على الدوام، واليوم ما عدت كذلك”.

ولكن ما إن تمّ تكريمه خلال الصالون الخريفي الذي احتفل بالتحرر من النازيين، حتى تعالت أصوات، شبابية في معظمها، تندد بذلك التكريم، نظرا للدور المحدود الذي لعبه بيكاسو في نصرة المقاومة حسب رأيها، فكان الردّ حاسما في الصحف السيّارة من كتّاب مرموقين دافعوا عن الفنان الإسباني، نذكر من بينهم بول إيلوار، ولويس أراغون، وجان بول سارتر، وفرنسوا مورياك وبول فاليري.

ولا يعني انخراط بيكاسو في الحزب الشيوعي خضوعه للدغمائية، على طريقة عدة كتاب وفنانين شربوا الواقعية الاشتراكية شربا وتمثلوها في أعمالهم، كما شربوا تنظيرات أندراي جدانوف الذي رافقت تعيينه على رأس الأمانة العامة للحزب الشيوعي السوفييتي بداية الحرب الباردة، وظهور نظريته المانوية في تقسيم العالم إلى معسكرين، إمبريالي غربي تقوده أميركا، ومسالم مناهض للإمبريالية والفاشية تتزعمه موسكو.

وقد حافظ بيكاسو على استقلاليته الفكرية، وظل فنان التحوّلات الذي يرفض أن يعطي صورة نهائية ثابتة للعدو، ما يؤكد أنه كان فنانا كبيرا ومناضلا ضامرا لم يلتزم بشروط الأيديولوجيا.

وتبقى لوحة غيرنيكا، التي تعرض صورة عنها أخذتها دورا مار، لأن الأصلية لا تغادر متحف الملكة صوفيا، رمزا لموقف بيكاسو من الحرب، وإدانته إياها بأسلوب فني عميق، وتخليدا لتلك الفاجعة حتى صارت بلدة غيرنيكا لا تذكر إلاّ بها.




المصدر: العرب اللندنية